بسم الله الرحمن الرحيم
قصة واقعية من الأدب العيونستاني
قبلَ أنْ يرتدَّ بنا الحديثُ في المقالاتِ القادمةِ إنْ شاء اللهُ إلى التقنيةِ المعِينةِ وقضايا الحاسبِ ومشاكلِه، رأيتُ -دفعاً للمللِ- أنْ أقدِّمَ هذه المرةَ شيئاً من الأدبِ العيونستاني. ولعلكم ما زلتم تذكرون ما سبقَ أنْ أشرتُ إليه في مقالةٍ سابقةٍ من أنَّ نفسي قد سولت لي في أوائلِ أيامِ هجرتي إلى بلادِ عيونستان، واستيطاني لها، واتصالي ببعضِ أهلِها، أنْ أكتبَ روايةً على مثالِ حكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ أُسمِيها ألفَ لَوْشَةٍ وَلَوْشَةٍ، أستَمِدُّ مادتَها من وقائعِ بلادِ عيونستان وحكاياتِ أهلِها، ولكنني أقنعتُ نفسي هذه الأمّارةَ بالسوءٍ أنْ تكفَّ عن هذه الفكرةِ المُهلكةِ التي تفنى الأعمارُ دونَ الوفاءِ بها، ورضَّيتُها بما هو دون ذلك من سردِ بعضِ فصولٍ متناثرةٍ من هذه الروايةِ على صفحاتِ هذه المدوَّنةِ بينَ وقتٍ وآخرَ. وها أناذا أبدأُ هذه الفصولَ بقصةٍ واقعيةٍ من الأدبِ العيونستاني أرويْها لكم نقلاً عن أحدِ الشيوخِ المعمرين، وعليه العهدةُ في صدق الروايةِ، وأحسبه من الصادقين.
الشيوخ الثلاثة وقنينة العطر
وقعت أحداثُ هذه القصةِ في قريةٍ من قرى الصعيدِ في مصرَ في زمنٍ كان شكلُ الحياةِ فيه مختلِفاً عما هو عليه الآن، ربما منذ أربعين سنةً أو خمسين. كان الناسُ يَحيون حياةً سهلةً سمحةً خاليةً من التعقيدِ والتكلفِ، تنشرحُ صدورهم لأخفِّ نسمةِ هواءٍ عابرةٍ، وتبتلُّ أكبادُهم وعروقهم لشَربةِ ماءٍ باردةٍ يطفئون بها حرارةَ الصيفِ وحرَّ أجوافِهم بعدَ وليمةٍ دسِمةٍ من الجُبن القديم، كان حمارُ أحدِهم على نفسِه أعظمَ وأكرمَ وأفخمَ من سياراتِنا المكيفةِ وطائراتِنا الخاصةِ. وبالجملةِ، كانت أقلُّ مُتَعِ الحياةِ تبلغُ من نفوسِهم ما لا تبلغُ أعظمُها من نفوسِنا، كالطفل في أولِ عهدِه بالحياة، كلُّ شيءٍ في عينيه جديدٌ، كلُّ شيءٍ في أذُنيه جديدٌ، الحياةُ كلها بِكرٌ عذراءُ، يَنهلُ من بَكارتِها وعذريَّتِها، لا مللَ، لا كآبةَ، لا تكرارَ. ومع ذلك كلِّه، فالناسُ هم الناسُ، من ترابِ الأرضِ خلِقوا، فيهم من الشرِّ والخيرِ معاً، ليسوا ملائكةً كما أننا لسنا ملائكةً، يصيبون ويخطئون كما نُصيبُ ونخطِئ. يبكون ويضحكون، يكذبون ويصدُقون، يحزنون ويفرحون. وفي إحدى ليالي الفرحِ في هذه القريةِ، كانت أحداثُ قصتِنا، في دارِ رجلٍ من أعيانِها، حيث يقيمُ حفلاً لمناسبةٍ سعيدةٍ، ربما زواج، ربما خِتان، لا أدري، أو ربما ذَكرَ ليَ الراويةُ ونسيتُ. لقد أخذت الدارُ زينتَها وتهيأت بما تتهيأُ به دُورُ ذلك الزمانِ في أمثالِ هذه الليالي. وكان من تمامِ الهيئةِ في احتفالاتِ ذلك العصرِ أنْ يقترنَ الاحتفالُ بتلاوةِ القرآنِ، فاتفق صاحبُ الدارِ مع مَن يتولى هذه المهمةَ، كانوا ثلاثةً من الشيوخِ معروفِين في القريةِ كلهم من أهل عيونستان. نعم، كانوا ثلاثةً من العيونستانيين من غيرِ شكٍّ ولا ريبةٍ. وفي الليلةِ الموعودةِ أقبلَ ثلاثةُ الشيوخِ على الدارِ، فاستقبلهم صاحبُها، وهيأ لهم حُجرةً في ناحيةٍ من نواحيها يستريحون فيها حتى يكتملَ توافدُ الناسِ، ولم ينسَ قبلَ أن يمضيَ عنهم لاستقبالِ ضيوفِه أنْ يطيبَ خاطرَهم بكلماتِ الإكبارِ والإجلالِ، وأنْ يطيبَ أنوفَهم وملابسَهم من قنينةِ عطرٍ كانت على مِنضدةٍ في الحُجرةِ.
وبعدَ أنْ انصرف عنهم صاحبُ الدارِ لشأنه وتركهم وحدَهم، أخذت رائحةُ العطرِ تلعبُ برؤوسِهم، فاهتزت لها أعطافهم، وسولت لهم أنفسهم أمراً. لماذا لا نستزيدُ من هذا العطرِ ونُصيبُ منه أكثرَ؟ ألم يكن صاحبُ الدارِ بخيلاً معنا في عطرِه؟ أو لعله كان عجِلاً فلم يحسن تطييبَنا؟ ولم يترك لهم ضِيقُ الوقتِ وحرجُ الموقفِ متسعاً للتفكير، فجاسوا خلالَ الحُجرةِ يتلمسون قنينةَ العطرِ التي تركها صاحبُ الدارِ هناك... لقد سمعنا صوتَ ارتطامِ قنينة العطر بجسمٍ خشبيٍّ عندما وضعها في هذه الناحيةِ.. لعلها مِنضدةٌ... نعم، هي مِنضدةٌ، وهذه هي القنينةُ عليها... هيا، انزع الغطاءَ... وأخَذوا يَصبون من القنينةِ صبا في أيديهم متعجلين قبلَ أنْ يدخلَ عليهم أحدٌ من أهلِ الدارِ فتكون الفضيحةُ وهم الشيوخُ أهلُ الوقارِ والهيئةِ بينَ الناسِ. هيا... تضَمَّخوا منها... مسِّحوا وجوهَكم، وأيديَكم، وملابسَكم، ولا تنسوا العمائمَ فوقَ الرؤوسِ، تيجانَ الوقارِ، ومواضعَ الهيبةِ. فلما انتهوا، وضعوا القنينةَ مكانَها الأولَ، وعادوا فاستقروا في أَماكنِهم التي تركهم فيها صاحبُ الدارِ قبلَ خروجِه. وجلسوا في هيئةِ الوقارِ التي تليقُ بأمثالِهم، وأَخذوا في أطرافِ الحديثِ ينتظرون عودتَه ليصحبَهم إلى الحفلِ وضيوفِه. ومضى من الوقتِ ما مضى، وانفتحَ البابُ، ومِن وراءِه صاحبُ الدارِ داعياً شيوخَه إلى القيامِ... فلما استقرت عيناه هنالك، أخذه من الصدمةِ ما اللهُ به عليمٌ. أين ذهبَ الشيوخُ الذين تركتُهم هنا؟ ليس هنا إلا ثلاثةُ أشباحٍ زُرقُ الوجوهِ والعمائمِ واللِّحَى، يرتدُون ملابسَ ملطخةً بالزُّرقةِ في كل موضعٍ منها، وأكفُّهم أيضاً زَرقاءُ. ولكن ما أسرع أن زالت الصدمةُ عنه عندما وقعت عيناه على قنينةِ الحِبرِ الأزرقِ المستقرةِ على المِنضدةِ هناك في جانبِ الحُجرة.
هناك 4 تعليقات:
مرحبا أخي عاطف.. فعلا قصة رائعة وواقعية بشكل كبير.. فالعيونستانيون لهم ما هو أشد من ذلك وأصعب من المواقف الواقعية. يشرفني أن أكون أول من علق على تلك القصة الجميلة. وليكن عربون تعارف بيننا, ويشرفني أن تزور مدونتي الناشئة.
مع أنني من أهل عيون أستان و لكن لم أتمالك نفسي من الضحك على ما حدث مرة و من الأسى على ما حدث لهم مرة أُخرى الله يعين
شكراً لك
رشا عمران
قصة طريفة ممكنة الحدوث، ولغة رائعة أرجو أن تصمد أمام الزحف التقني.
تحياتي المعطرة بالحب
الأستاذ حسين الأمير، تحياتي وتقديري، تشرفني زياراتك.
إرسال تعليق