الأربعاء، أبريل 22، 2009

أهل البصرة وأهل الكوفة

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما وطئت قدماي أرض عيونستان منذ سنوات، وبحكم المواطنة، تعاملت مع بعض سكانها الأصليين. فوجدت لبعضهم عادةً عجيبةً عند التعارف يقسِّمون بها الناس إلى طوائف وشيَع. وليس هذا أمراً غريباً، فالله قد خلق الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وليتمايز بعضهم من بعض، فهذا عربي وذاك أعجمي، وهذا مصري وذاك شامي، وهذا من بني فلان وذاك من بني فلان، وهؤلاء من أهل الحضر وأولئك من أهل البادية. ولكن الأمر الغريب الذي استوقفني هو أنني وجدت لهم تقسيمًا آخر ينقسم الناس فيه عندهم إلى عيونستاني وغير عيونستاني، وبعبارة أخرى إلى كفيف ومبصر. فكم مرة سمعتُ هذا السؤال: أكفيف هو أم مبصر؟ وربما أعادوا صياغته صياغة مختلفة فقالوا: أمبصر هو أم كفيف؟!
والحق، أن هذا التقسيم ليس معتمدًا لدى كل أهل عيونستان، فكثير منهم لا يعنيه أن يعرف إن كان الإنسان كفيفًا أو مبصرًا، ولكن كثيرًا منهم كذلك حريص على هذه المعرفة، لا رغبةً في التمييز ضد هذا الفريق أو ذاك، ولكنْ ليخاطب كل قوم بلسانهم وليفقه عنهم ما يقولون. فليس من الحكمة أن يأخذك الحديث مع إنسان في أودية عيونستان وسهولها فتميل به مرةً إلى الحديث حول نظام الكتابة البارزة سائلًا إياه عن طابعة بريل جيدة في أدائها رخيصة في سعرها، ثم تنحدر به فجأةً فتسأله أن يريك عصاه البيضاء ومن أين اشتراها، فتجد الرجل متلعثمًا متلجمًا يقول لك بعد أن ابتلع ريقه: والله يا أخي ما أفقه كثيرًا مما تقول!
وليس من الحكمة كذلك أن تجلس أختنا العيونستانية إلى صاحبتها من غير أن تتبين جلية أمرها فتسألها قائلةً: أيهما أفضل الهال أم الجوز؟ فتنطلق صاحبتها المتبحرة في علوم الطبخ مستنكِرةً: ما العلاقة بين الهيل والجوز؟! فلكلٍّ منهما مكانه في الطبخ الذي لا يصلح فيه صاحبه! ثم أي أنواع الجوز تقصدين: جوز الهند، أم الجوز الذي هو قريب اللوز؟

ولست أدري كيف أخذني هذا التقسيم الثنائي إلى زاوية أخرى بعيدة من تراثنا الإسلامي والعربي فذكَّرني بتقسيم ثنائي آخر. ذكَّرني بمدينتي البصرة والكوفة وما كان بينهما من سجال خاصةً في مجال النحو العربي والخلاف بين مذهب البصريين ومذهب الكوفيين في هذه المسألة النحوية أو تلك. فلما وضعتُ التقسيمين إزاء بعضهما، أخذتني الدهشة لهذه المفارقة العجيبة بينهما من حيث التقابل ومن حيث اللفظ. فمن حيث التقابل: كلاهما تقسيم ثنائي لا يُذكَر فيه أحد فردي التقسيم إلا وذكِر معه صاحبه، أو على الأقل استدعته الذاكرة. ومن حيث اللفظ فالأمر لا يخفى على أُذنيك! فهل يخفى هذا التجانس الصوتي وتلك المُشاكلة اللفظية بين البصرة والكوفة من ناحية، والبصَر والكف – أعني كف البصَر – من ناحية أخرى، ثم بين البصريين والكوفيين من ناحية، والمبصرين والمكفوفين من ناحية أخرى. كل هذا مع اختلاف الأصل اللغوي لهذه الكلمات، فلا البصرة مأخوذة من البصَر، ولا الكوفة مأخوذة من الكف!

فلما تفكرتُ في الأمر، قلت: لماذا لا يستثمر العيونستانيون هذه المفارقة، فَيُورُّون بها عند السؤال؟ فبدلًا من أن يسأل العيونستاني مُواطنَه العيونستاني الآخر عن هذا الإنسان أو ذاك: أكفيف هو أم مبصر؟ بدلًا من هذا السؤال، يستطيع أن يسأله: أمِن البصْريين هو أم من الكوفيين؟

وفي ختام حديثي أسأل الله أن ينفعني به وإياكم.

هناك 12 تعليقًا:

رُقَيَّة العِيسَوِي عَنَانْ. يقول...

اللَّهُ أَكْبَرُ بِالشُّمُوخِ أَزُفُّهَا قَدْ أَيْنَعَ المَغْرُوسُ في البُسْتَّانِ،
رُوَّادُ عِلْمٍ وَالجِهَادُ رَفِيقُهُم، قَدْ أَبْدَعُوا بِالفَنِّ في البُنْيَانِ
صَلَّيْتُ للَّهِ العَلِيِّ تَقَرُّبَاً أَنْ يَبْقَى عِلْمُكَ شَامِخَ الأَرْكَانِ
صَلَّيْتُ للَّهِ العَلِيِّ تَقَرُّبَاً كَيْ يَبْقَى ذِكْرُكَ فَخْرَ كُلِّ لِسَانِ،
لَقَدْ تَجَاوَزْتَ حُدُودَ الإبْدَاعِ يَا أُسْتَّاذْ عَاطِفْ في مَقَالِ الكُوفَةِ وَالبَصْرَةْ، وَأَضَافَ قَلَمُكَ الْمِعْطَاءُ رُوْحَاً مَرِحَةً عَلَى جَوِّ المَقَالْ، مِمَّا جَعَلَ المَعْنَى قَرِيبَاً إلَى النَّفْسْ، فَإلَى الأَمَامِ يَا فَارِسَ القَلَم.
رُقَيَّة العِيسَوِي عَنَانْ.

عاطف أبو الوفا يقول...

الوالدة الكريمة، الأستاذة رقية العيسوي
لقد أنارت أبياتُكِ الرقيقة وكلماتُكِ الطيبة المدونة نورًا لا أجد وفاءً له إلا أن أقول: جزاكِ اللهُ خيرًا، والله عنده حسن الجزاء

الشهراني يقول...

ربط جميل ولكن ألا ترى معي أنك ربما تخرج من مشكلة تطوير وتعديل المصطلحات إلى مشكلة إنقلاب الكوفيون عليك لأنك حولتهم إلى شعب كفيف.؟
في انتظار جديدك وتقبل خالص التحية

عاطف أبو الوفا يقول...

يا أستاذ شهراني، أنت تريد أن توقع بيني وبين أهل مدينة الكوفة!

غير معرف يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دكتور عاطف
بارك الله فيك استاذنا على هذه المقالة الطريفة والجيدة والهادفة في آن معا ,
ونرجو أل تنقطع علينا بهذه التحف الأدبية النادرة من حيهن إلى حين عن بلاد عيون ستان وعن أهلها من الكوفيين والبصريين
ونرجو ان تكتب لنا شيءا عن التشكيل في اللغة العربية ودوره في تيسير القراءة على الآلات الناطقة وبالتالي تيسير الفهم على المتلقي
وفي الأخير تقبل منا فائق الاحترام والتقدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد المجيد قريشي

عبد العزيز عبد الله يقول...

ماذا تقصد بالهال والجوز؟

عاطف أبو الوفا يقول...

يبدو يا أستاذ عبد العزيز أنك لست من مواطني عيونستان، الهال والجوز برنامجان شهيران يستخدمهما المكفوفون في قراءة محتوى شاشة الحاسب

غير معرف يقول...

في وطنناالسؤال مباشر وصريح وقاس في بعض الأحيان عما إذا كان المرء كفيفا أم مبصرا. وفي بلدان أخرى يُسأل هذا السؤال بطريقة مختلفة فيقولون: هل أنت من مستخدمي التقينات التعويضية؟ فيجيب المرء بنعم أو بلا.
أستمتعت بقراءة المقال.

عودة هزيم

فارسة الكلمات الندية يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما شاء الله! تبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تحليلٌ منطقيّ في قالب أدبيّ جميل يحتوي بين ثناياه لمسات من المرح.
ووالله إن ربطك للمكفوفين بأهل الكوفة، والبصريين بأهل البصرة ليأنسُ له القلب.
لا حرمنا الله أبدا من نور فكرك.
دمت في تألق دائم.

عاطف أبو الوفا يقول...

الأستاذة فارسة الكلمات الندية، أشكر لك كلماتك الندية، وأسأل الله أن أكون والمدونة عند حسن الظن.

رشا عمران يقول...

الله الله الله
ما هذا الربط العجيب الذي ما دل على شيء إلا ما تتمتع به من عقل منير و فكر فريد
أتمنى من الله أن يزيدكَ علماً على علمكَ و أن ينفعك به يوم القيامة يا رب العالمين

عاطف أبو الوفا يقول...

الأستاذة رشا عمران، أسعدَني مروركِ، وأسأل الله أن يجعل لي من دعوَتكِ نصيبًا